بعض ملامح المعتقدات الدينية في جبل الكرد (عفرين)
في فترة ما قبل الميلاد
يؤكد الباحثون أن الحياة استمرت في حوض نهر عفرين على مدى عشرات الآلاف من السنين، كما شهدت البدايات الأولى لاستقرار الإنسان في أكواخ ثابتة. حيث توجد بجانب تل عين دارا قرية زراعية تعود إلى العصر الحجري الحديث، أي 8000–5000 ق.م، كما أن هناك عشرات التلال والمواقع الأثرية الأخرى تعود إلى فترات قريبة أو بعيدة من ذلك التاريخ، باقية دون تنقيب، وهي لاشك، تخفي في جوفها أسراراً لمعتقدات وعبادات قديمة سابقة لما هو معروف حتى الآن في المنطقة.
إن الهيكل العظمي للطفل الذي أكتشف عن هيكله العظمي في كهف دوده ريه Duderiyê في جبل ليلون (منطقة عفرين)، يدل على أن إنسان نياندرتال كان يقوم بدفن موتاه، أي أنه كان صاحب معتقدات وأفكار وطقوس بدائية، تصلح أن تنسج عليها عقائد دينية متفرعة، فقد وجد رأس رمح من الصوان على صدر ذلك الطفل، وقد يكون ذلك أحد الطقوس الدينية البدائية في ذلك العصر.
كما يعتبر معبد عين دارا أحد أقدم المعابد المكتشفة لفترة ما قبل الميلاد في جبل الأكراد، وقد حافظ على بنائه سليم إلى حد كبير، ولا يعرف بالضبط الإله الذي شيد المعبد لأجله، إلا أن الآثاريين يفيدون بأن هذا المعبد هو من الفترة الحثية الحديثة، والألف الأول قبل الميلاد ، وفي المعبد مصلى، وعلى بابه آثار أقدام بشرية بمقاييس غير بشرية، يدل ترتيب توزعها على طقس معين في العبادة عند الدخول إلى المعبد. ويحرس المعبد وأروقته أسود بازلتية ضخمة مع أشكال للإنسان الثور وتماثيل أخرى، تشير، كما يعتقد بعض الباحثين ، أنه كان لإلهة الجبال (عشتار)، وإله الطقس (هدد) الذي يمثله الثور، مكانة عالية لدى المتعبدين في هذا المعبد. كما عثر في السوية الخامسة من التل المذكور، التي تعود إلى العهد الأخميني (الفارسي)، على تميمة من الحجر البلوري، مثل عليها إله الخير الزردشتي (أهورامزدا ) الممتد مع قرص الشمس المجنح.
وفي قرية خراب شمس على جبل ليلون (شيروان)، يوجد نحت لرأس ثور وقرص للشمس على نجفات بعض الدور الأثرية القديمة، وعلى واجهة معبد (لم يبق منه سوى نجفة ضخمة) رسم نافر لقرص الشمس والقمر، أحاط بهما من كل جانب رأس ثور وإكليل من الزهر. ويقول الباحثون عن ذلك، بأنه ربما كان مدخلا تابعاً لمعبد وثني من القرن الثالث للميلاد. وعبادة مظاهر الطبيعة كالقمر والشمس هي من العبادات الآرية القديمة في كردستان، حيث كان الزردشتيون يعتبرون الشمس والقمر في جبهة أهورامزدا ومكافحين لإله الشر (أهريمان). وكما هو معروف فإن للشمس مكانتها المرموقة في الديانة الزردشتية قديما، والإيزدية حالياً، والشمس هي عيون الإله ( آهورا مزدا). كما اعتبرها الهوريون قبلهم إلهاً، وسموها (ميثرا) منبع النور وإله الحقيقة.
وتقول المصادر التاريخية إن الإله (نابو) الرافدي كان يعبد في جبل ليلون (سمعان) ، في القرون السابقة للميلاد وما بعدها، وكان له هياكل منتشرة عليه، وأضخمه في موقع قرية (كفر نبو) الحالية، ولا يزال اسم العلم (نبو) دارجاً بين الأكراد في جبل ليلون. و(نابو) من الآلهة القديمة لدى شعوب الرافدين، ثم اكتملت هيئته ووظائفه لدى الآشوريين، وأنيطت به الحكمة، وأصبح ينادى (ينبوع الحكمة) واستمرت عبادته في مناطق ليلون من كردداغ إلى نهاية القرن الرابع الميلادي.
أما كزينفون فيذكر في كتابه [رحلة العشرة آلاف]، أن القاطنين على ضفاف نهر كالوس (عفرين) كانوا يقدسون أسماك النهر.
وقد أفاد بعض النباشين عن الآثار، أنهم عثروا بجوار قرية (ساتيان) على مدفن أثري قديم ضم رفاة موتى، وفي وسط المدفن تمثال ديك أجوف بحجم أكبر من الطبيعي أحمر اللون، وهذا ولاريب من طقوس العبادات الوثنية لفترة ما قبل انتشار المسيحية في المنطقة.
كما يدرج لدى الأكراد في الجبل، دون غيرهم من شعوب المنطقة، اسم (شيخو) بكثرة، وشيخو هو اسم إله كاشي (نسبة إلى الشعب الكاشي من أسلاف الأكراد)، وهو من كبار الإلهة المحبوبين، وسلطان الآلهة، وإله الأرض. ولهذا دلالة على وجود بقايا من معتقدات الكاشيين لدى أكراد جبل الكرد.
ومن الجدير ذكره هنا أيضا، أن هناك رسمان متقابلان لطائر الطاووس موجودان على مذبح كنيسة في قرية كيمار يعود تاريخ بنائها إلى عام 537م، وهما يحيطان بدائرة تحتوي على دائرة. إن طائر الطاووس في المعتقدات الإيزدية، يرمز إلى رئيس الملائكة (طاووس ملك)،. أما الدائرة التي تحيط بصليب متساوي الأضلاع، وهي شكل موجود بكثرة على الآثار التي تعود إلى الفترة المسيحية، فيقول عنها الإيزدييون: أنها ترمز في ديانتهم إلى الأرض وجهاتها الأربع، وهو صليب آري، فكما هو معروف إن الصليب الميتاني- الهوري متساوي الأذرع، على خلاف الصليب المسيحي الذي يستطيل ذراعه السفلي . حيث يعتقد أن عبادة الإله (ميثرا) الميتاني - الهوري، ظلت قائمة في الشرق الأدنى وفي أوربا حتى القرن الثاني للميلاد، وقد انتقلت عبادة ميثرا من الشرق إلى الغرب على يد الرومان. وكان يرمز إليه بطائر الطاووس.
أما مزار شيخ بركات في قمة جبل شيخ بركات، الذي يعتبره الإيزديون والدروز مقاماً لأحد شيوخهم، فقد كان في فترة ما قبل الميلاد حتى القرن الأول للميلاد، معبداً للإله الإغريقي (زيوس) إله الصاعقة، مثلما كانت مدينة سيروس (نبي هوري الحالية) مركزاً هاماً لعبادة الإلهين (أثينا) و(زيوس).
إضافة إلى كل ذلك، هناك مزارات قديمة في كردداغ، ذكرتها المصادر التاريخية، وهي ذات دلالات قبل مسيحية، فمزار (بارسه خاتون) Parse Xatûn الإيزدي حاليا فوق قمة جبل Parsê (بارسي) المطل على أعزاز من جهة الشمال الغربي، تقول عنه المصادر إنه كان موضع مقام النبي داود ومعبده.
أما عن زيارة حنان المعروفة فيقول عنها المؤرخ ابن الشحنة: إن فيها قبر أخي النبي داود. أما المزار المسمى حاليا (نبي هوري) بجوار المدينة الأثرية القديمة (سيروس)، فيقال أن فيه قبر (أوريا بن حنان) أحد قادة النبي داود، حيث دفن هناك بعد مقتله. ومما يلفت الانتباه أن النجمة السداسية التي ترمز إلى الديانة اليهودية والنبي داود، توجد على بعض الدور القديمة التي يعود بناؤها إلى أوائل القرن التاسع عشر للميلاد، وقد وجدت ذلك على بعض الدور في قرى معراته Maratê وجوبانلي Çobana وغازي تبه Gazê، وترنده Turind.. وهناك قبر في مقبرة زيارة (قره جرنه) Qere curn. منقوش على واجهاتها الأربعة نجموم سداسية. ولكن هناك غموض يكتنف وجود هذه الرموز الدينية اليهودية في بعض قرى كردداغ.
إضافة إلى ما سبق، فإن أكراد كردداغ لا يزالون يُقسِمون بمكونات الطبيعة، كالماء والنار والشمس والقمر، ويكوون أطفالهم بجمرات النار لحمايتهم من الأمراض، ويضيئون الأماكن المقدسة بالمصابيح والشموع (النار) كطقس أساسي يومي أو أسبوعي .
إن مجمل ما ذكرناه، يحمل في طياته دلالات دينية لعهدين:
ما قبل الزردشتية: حيث كان تقديس الطبيعة وعبادة قواها، ومن بينها الصليب المتساوي الأذرع الميتاني – الهوري رمز الإله (ميثرا)، وهو لايزال يرسم على أجساد الأطفال المرضى، وتوضع في رقاب الأطفال والحيوانات الأليفة، كما يرسم على الأدوات المنزلية. وهناك اعتقاد سائد بأن للخرزة الزرقاء التي تستعمل في الوقاية من العين والأذى صلة باللباس الأزرق الذي كان يرتديه رجال الدين المجوس الآريين قبل ظهور الديانة الزردشتية. وجدير بالذكر أيضا، أن اسم أحد آلهة الميديين (أسلاف الأكراد) كان (نازاتيا) و (نازي) Nazê، نازو، نازليه، ناز، هو اسم علم مؤنث لايتداوله غير الأكراد، ولهذا له دلالة ما قبل زردشتية أيضا.
ثم عهد الزردشتية: حيث كانت للنار وللشمس مكانة مرموقة في معتقداتها كما ذكرنا سابقا.
على ضوء هذه المعتقدات والمؤشرات الطقوسية والعادات الاجتماعية التي أتينا على ذكرها، يمكننا القول إنه لا تزال في كردداغ بعض المعتقدات من عصر العبادات الوثنية الآرية، وطقوس للديانات المسيحية واليهودية والزردشتية، التي كان لها تأثير كبير على سكان جبل الأكراد. وما يدعم قولنا هذا أن الدول والشعوب التي كانت تدين بالعقائد الآرية القديمة، وهم الهوريون والحثيون، أو التي اعتنقت الزردشتية كالميديين والبارسيين، ثم تلك التي اعتنقت اليهودية، أو التي عبدت الإله نابو من الرافديين، أو الإله زيوس كاليونان، فإنها جميعها وصلت إلى كردداغ، إما عن طريق الدول الحاكمة، أو عن طريق السكان المستوطنين. وتركت كل واحدة منها (ديانات وشعوبا) أثارا عقائدية وطقوسية عميقة في المنطقة وسكانها لا تزال بقاياها موجودة حتى يومنا هذا.