لا يسودُ الوِداد بين قومٍ انطَوَوا على الأحقاد، ومن أمسكَ العداوةَ وتربَّصَ الانتِقام عاشَ مُعذَّبًا، وصارَ بالهمِّ مُكبَّلاً، وما أفسدَ العلائِقَ بين الخلائِق مثلُ الضغائِن؛ فهي الحقدُ الكامِن، والشرُّ الكائِن. تهدِمُ المدائِنَ وتُفقِرُ الخزائِن، وتمنَعُ المُقاربَة، وتقطعُ المُصاحبَة، وتُوقِعُ المُحارَبَة.
إن الضغينةَ تلقَاها وإن قدُمَت
كالعَرِّ يكمُنُ حينًا ثم ينتشِرُ
فما أقربَ طُرُوَّها، وأسرعَ بُدُوَّها، وأشدَّ دُنُوَّها، وأعظمَ فُشوَّها.
وشرُّ التِّلاد وِراثةُ الأحقاد، تُترعُ بها قلوبُ الأولاد، وتُغرسُ في صدورِ الأحفاد، وتبقَى أمدَ الآماد. وقديمًا قيل:
أحيَا الضغائِنَ آباءٌ لنا سلَفُ
فلن تَبيدَ وللآباءِ أبناءُ
ومن كانت الضغينَةُ رايتَه، والانتِقامُ غايتَه، والتشفِّي عادتَه خسَفَ بدرُه، وسقطَ جدرُه، وصغُر قدرُه، وتلهَّب صدرُه. ومن تركَ الأحقادَ والضغائِن عاشَ مُعافَى، وجمعَ أحلافًا، وأكثرَ ألفافًا، وتجنَّبَ إلحافًا، وأمِنَ إتلافًا.
ومتى تسلَّطَت الحَزازاتُ والعداواتُ على القلب اختلَّ واعتلَّ، فذهبَ صفاؤُه، وعسُر شِفاؤُه، وطالَ بلاؤُه، وتعذَّر دواؤُه.
ومن الناس من إذا خالفَ هجَر، وإذا خاصمَ فجَر، فألصقَ بخصمِه التُّهَم، ونوَى له النِّقَم، وباشَرَ الإيذاءَ، وصبَّ العداء. والوصيةُ النافعةُ والحكمةُ الجامعة: قولُ سيِّد الحُكماء محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: «فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخل الجنة فلتأْتِهِ منِيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأْتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه»؛ أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
أي: يفعلُ معهم ما يحبُّ أن يفعلُوه معه. وبذلك تنتظِمُ الأمور، ويرتفعُ الخلافُ والنُّفور، وتزولُ الضغائِنُ من الصدور.
أيها المُحتمِلُ الضغينَا، والحقدَ الدَّفينَا، بفعلِك ما صعدتَّ نجدًا، وما بنيتَ مجدًا، وما قصدتَ رُشدًا، وما نِلتَ سعدًا.
ودعُوا الضغينةَ لا تكُن من شأنِكم
إن الضغائِنَ للقرابةِ تُوضعُ
واعصُوا الذي يُزجِي النمائِمَ بينَكم
مُتنصِّحًا ذاك السِّمامُ المُنقَعُ
يُزجِي عقارِبَه ليبعثَ بينَكم
حربًا كما بعثَ العُروقَ الأخدعُ
أبُنيَّ لا تكُ ما حييتَ مُمارِيًا
ودعِ السفاهةَ إنها لا تنفعُ
لا تحمِلنَّ ضغينةً لقرابةٍ
إن الضغينةَ للقرابةِ تقطعُ
لا تحسبَنَّ الحِلمَ منك مذلَّةً
إن الحليمَ هو الأعزُّ الأمنَعُ
فكُن للعداوةِ ترَّاكًا، وللعفوِ درَّاكًا، وقابِلِ الجهلَ بالحِلمِ والوقار، وإياك أن تُستفزَّ وتُستثَار، مما يُتطلَّبُ لك السقوطَ والعِثار، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34].
والإحسانُ للمُسيءِ يُدنِيه، والمُلاطفةُ تُثنِيه، والمُداراةُ تحتَويه.
وما قتلَ السفاهةَ مثلُ حِلمٍ
يعودُ به على الجهلِ الحليمُ
ولا تقطعْ أخًا لك عند ذنبٍ
فإن الذنبَ يعفُوهُ الكريمُ
والمُلايَنَةُ ولا المُبايَنَة، والمُصانَعَة ولا المُصارَعة، والمُقارَبَةُ ولا المُحارَبة، والأناة ولا المُعاناة. ورأسُ الأدب كَتْمُ الغضب. ومن طبائِع الكِرام: العفوُ، والصفحُ، والمنُّ، والإنعام.
ولا يكظِمُ الغيظَ، ويعفُو عن الجانِي، ويحلُمُ عن الجاهل، ويحتمِلُ المكروه إلا السيِّدُ الوجيه، والحكيمُ النَّبيه، والعالِمُ الفقيه.
ولا يدُومُ الوِئام مع الحنَقِ والاحتِدام، ولا يبقَى الاحتِرام مع الغضبِ والاصطِدام، ولا يكونُ السلام مع المُقابلة والانتِقام. ومن تطلَّبَ الانتِقام ضاعَ زمانُه، وتفرَّق إخوانُه، وهجَرَه أقرانُه. ومن كان بالوجه عابِسًا، وبالكفِّ يابِسًا، وللعداوة لابِسًا، وللعفوِ حابِسًا تعِسَ وانتكَس، وفي الخَيبَة ارتكَس.
واللَّجاجةُ والفَظاظة، وتعمُّدُ الإساءة والإغاظَة مسالِكُ مُستقبَحَة تُوغِرُ الصدور، وتُهيِّجُ الغضب، وتُعقِبُ الحقد، وتقطعُ حبلُ المودَّة والوِصال. فاحذَروها واجتنِبُوها، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53].
ومن الناس من إذا سعى إلى المناصِب والمراتِب، والعلُوِّ والدُّنُوِّ، والرئاسة والزعامَة والصَّدارة حارَبَ الأقران، وضاغنَ الإخوان، وكرِهَ أن تُذكَر محاسِنُهم، أو تُروَى فضائِلُهم، وأحبَّ أن تُنشرَ معايِبُهم، وأن تظهرَ مثالِبُهم. فإن لم يجِد مثلَبًا وبُرهانًا رماهم كذِبًا وبُهتانًا.
وتلك – والله – السَّوءةُ التي هانَ بها الرجال، وشابَهُوا بها الأنذال، وماثَلُوا بها الأرذال، وسقَطُوا بها في أوحال الخِسَّة والدَّناءَة والضلال.
حبُّ الرِّياسةِ داءٌ يحلِقُ الدنيا
ويجعلُ الحبَّ حربًا للمُحبِّينَا
يفرِي الحلاقِيمَ والأرحامَ يقطَعُها
فلا مُروءةَ يُبقِي ولا دينًا
فتنزَّهُوا عن فعلِ الحُسَّاد، وذوي الأحقاد، وانتَهوا عن الرَّدَى، ولا تُؤذُوا من الخلق أحدًا، وكُفُّوا عن الشرِّ لسانًا ويدًا.